العمل بالجنس التجاري في العصور الوسطى بالعالم العربي في كتابات الطفاشي

“أدخلت امرأة من قحاب هذا العصر رجلا إلى بيتها، فبينما هي معه قرع زوجها الباب فأدخلته -عشيقها- خزانة… وخشيت أن يدخلها زوجها فاستدعت جارتها وطلبت ملحفة… وأقامتها في وجه الزوج، ثم أشارت إلى الرجل بالخروج، فخرج ومضى والزوج لم يشعر”

هذه قصة ذكرها التيفاشي في كتابه “نزهة الالباب فيما لا يوجد في كتاب’ وهو أحمد بن يوسف التيفاشي المولود بقرية صغيرة في دولة الموحدين (موقعها بالجزائر حاليا) عام 1184 م وتوفي عام 1253م بالقاهرة بعد أن تنقل في حياته بين بلاد العرب من مغربها إلى مشرقها، عُرف لإسهاماته في علم المعادن وألف فيه كتابًا بعنوان “أزهار الأفكار في جواهر الاحجار” ولكنه لم يكتف بذلك وألف كتبًا في الجنس والاجتماع  منها “رسالة فيما يحتاج إليه الرجال والنساء في استعمال الباه مما يضر وينفع” والأهم بالنسبة لنا هو كتابه “نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب” الذي تناول فيه مواضيع اجتماعية عدة في شكل طريف على هيئة تسجيل لوقائع رصدها وتحليلها ونقل أخبار وأشعار قد سمعها خلال رحلاته العديدة في الأقطار العربية والإسلامية، لذلك يعد كتابه هذا تأريخًا إجتماعيًا نادرًا لحياة العامة وللحياة الجنسية خاصة في القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين، أو السادس والسابع الهجريين، أو كما يُسمى بالإنجليزية تاريخ للعامة people history خلال عصور دولة الموحدين في المغرب والأيوبيين والدولة العباسية في المشرق.

يحكي التيفاشي عن 22 صنفًا للقوادين [١] في ذلك العصر مما يوحي بأن الجنس التجاري لم يكن مجرمًا أو كان هنالك تطبيع عام معه حتى يمكنه ذكره دون حرج، ويذكر وظيفة كل منهم بالتفصيل وأجرته، فيذكر مثلا:

1- الحَوش الذي لا أجرة له وواجبه إيصال العاملة لبيت الزبون وحمل امتعتها وأجرته ال”تيبس” أو ما يجود عليه به الزبون.

2- حوش الحوش والذي له سُدس أجرة العاملة مقابل أن ينظم لها الليلة ويضمن لها أن الأجرة سليمة وليست مغشوشة.

3- المعرس، وهو لفظ يستعمل اليوم في المصرية العامية وقد يكون هذا جذره التاريخي، ومهمته الاستضافة للعاملة والزبون وحسب مدى تدخله في الجمع بينهما تكون أجرته الربع او النصف من الأجرة.

4- السمسار ومهمته السمسرة بأن يذكر محاسن الفتاة -سواء كانت بالصدق أو الكذب- وأجرته النصف.

5- القرنان أو ما يوصف اليوم ب”القرني” ويقصد به من عمل قوادًا على أهله، ويهجو شاعر أحدهم يسمى ابن حمدون:

إن ابن حمدون ذو قرون… شمخن في رأسه، طوال

لو أنها في زمان موسى… أغنت عن الصرح ذي المحال

وكان فرعون قد تدلى… منها إلى الله بالحبال

6- المُسكن، وهو أعلاهم وأكثرهم مالا وله بيت فيه جواري وغلمان ويستهدف التجار ويأخذ منهم أموالا طائلة مقابل خدماته.

ولم تكن القوادة حكرًا على جنس الرجال ولكن يذكر أيضا 10 أصناف من القوادات، أغلبهن عجائز وهذا نابع من المخيال العربي حول العجوز الشرير التي تفسد النساء لأنه يسهل عليها دخول البيوت دون اشتباه، والفئة الأخرى من القوادات غير العجائز هن البائعات ومقدمات الخدمات للنساء مثل الدلالة والماشطة والقابلة والحجامة، فيدخلن على النساء ويفتنهن، وآخر فئة من القوادين على النساء هم الخدم و”المخنثون” وهم ممن لا يعتبرهم التيفاشي رجالًا ولا نساءً ويقصد بذلك انهم خصي، وكانت النظرة للخصي على انهم جنس ثالث نظرة تشيع في العقل الجمعي العربي ويتبعها إلحاق صفات قبيحة كالغيرة والحقد على غيرهم ممن لم يحرموا من متعة الجنس.

ويصف التيفاشي عمل كل قواد بدقة بين من يجلس بين القوم ويذكر مفاتن فلانة وبين من يتحايل ويندمج بين التجار ومن يستغل المواقف والشجارات وكما يذكر انتشار الجنس التجاري للذكور والإناث لا الإناث فقط كما قد يتخيل البعض أن العرب لم يعرفوا المثلية عبر تاريخهم، ويذكر الأمثال الشعبية وبعض الأحاديث المرتبطة بموضوعه واصفًا الوعي الجمعي للعامة في عصره، فيحكي عن مثل “أقود من ظلمة” وهي من كبار القوادات في التاريخ العربي.

وكانت القوادة والدعارة جزءًا من ثقافتهم فأدخلوها في أشعارهم ومخيالهم، فيذكرون في الأشعار عن القوادة القادرة:

قوادة فارهة، كثيرة التوصل

لو شهدت صفين أو وقعة يوم الجمل

توصلت بالصلح بين ابن هند وعلي

أما أصناف العاملات أو بلغة العصر “القحاب” فهم سبعة [٢] يختلفن في أساليبهن منهن:

1- الغيرانة: هي من تدعي أن لها زوجًا يخونها وأنها تود خيانته كما يخونها، فيتبعها الرجل.

2- السكرانة: وهي تمشي في الشوارع سكرانة حتى تجد ضالتها فيظن أنها غنيمة سهلة وهي في حالتها تلك.

3- الحيرانة: وهي من تدخل البيوت وتدعي أنها تائهة.

ويذكر صنفين من القوادين على الذكور أو بلغة العصر “العلوق”: “المستعشقود” وهو من يمارس مع الغلام الذي يقود عليه و”صندل” وهو غلام يقود على غلمان، والعرب كانت لديهم ظاهرة “الغلمنة” أو “حب الغلمان” كما كانت عند الفرس والرومان واليونان من قبلهم، وإن لم تكن هي مظهر المثلية الوحيد لديهم، وهي ظاهرة تنشأ بالدرجة الأولى في مجتمعات ذكورية كنوع من التحايل على الذكورية بنزع صفة الذكورة او الرجولة من الغلام وبالتالي ممارسة الجنس مع الغلام لا تعد اعتداء على الذكورة، وهذا حديث له موضع آخر.

ومن أوصاف الغلام المؤَاجر أو العامل بالجنس، حلاقة شعر القدمين والوجه وكان العرب يعدون حلاقة شعر الوجه نوع من التحايل ليبدو أصغر سنا، وكان السادة ممن يقودون على الغلمان العبيد، وأجرة الغلام ليست ثابتة وكانت وفق الاتفاق والتراضي معتمدة على عوامل عدة منها مضمون الاتفاق ومكانة أطرافه، فتتراوح بين درهم ودرهمين كحد أدنى إلى ١٠ دراهم او دينار، وقد يزيد الى١٠٠ درهم، والشائع ذكره درهمين او عشرة[٣]، وتتحدد الأجرة حسب المطلوب من العامل ومقدار جماله حسب معايير زمانهم ومدى سعة وغنى الزبون، فكلما زادت الخدمة الجنسية زاد المبلغ، وربما كانت الأجرة أشياء مثل الملابس او الاوعية او غيرها مما لها قيمة، فمن الطرائف المذكورة أن أبا نواس كان يدفع للغلام درهمين وللخصي درهم واحد لأن الأول يقدر على أكثر من الثاني، كما أن نمو اللحية يقلل من الأجرة، وكانت العقوبة أغلبها جلد ولكن الإعدام كان يطبق أحيانا، وعلى ما يبدو كان الإعدام يطبق إذما كانت العلاقة بين رجلين لا رجل وغلام.

وللاسف لا يوجد لدينا تقدير محدد لقيمة الأموال في النصوص الموجودة لأن التيفاشي لم يحدد لها تاريخا، وعاش في فترة مضطربة اقتصاديا قد يكون الدينار فيها يساوي ٤٠ درهما حسب الوثائق [٤]، ولكن نملك من خلال نصوص جنيزة القاهرة، وهي مجموعة من النصوص التي سجلها اليهود الذين عاشوا في القاهرة منذ القرن التاسع الميلادي، لدينا تقدير لأجرة العمال[٥]، فالأجرة اليومية للعامل غير الماهر كالصبي درهمين يوميا، والأجرة للعامل الماهر ٥ دراهم يوميا في نفس فترة حياة التيفاشي، فيمكن القول أن أجرة درهمين أجرة تمثل الحد الأدنى الذي قد يقبل به العامل في الجنس بالاخذ في الاعتبار انه يمكنه اخذها يوميا في اي اعمل اخر، بينما أجرة ١٠ دراهم أجرة أكثر منطقية كمعدل ادنى لمن يمارس الجنس كمهنة لا مجرد نزوات،  حيث تكلفة الغدا لفرد كانت تمثل درهم وربع وتكلفة العيش لأسرة عالاقل دينارين فالشهر او ٨٠ درهم، فيمكن من خلال ذلك فهم ان درهمين المذكورة كانت المبلغ لممارسة غير احترافية للجنس، وفهم ايضا لماذا يغضب الغلام المؤاجر في النصوص إذا أُعطي درهما لممارسة الجنس فهذا لا يكفي حتى غداء يومه، بينما ال١٠ دراهم وأكثر هو الأجرة الأنسب لممارسة احترافية للجنس، وإن أردنا تمثيلها بالجنيه الحالي فربما قارب الدرهم ٥٠ج ويتناسب مع سعر وجبة غدا، وال٥ دراهم ٢٥٠ج وهي اجرة عامل يومي في مصر الآن، وهكذا تكون ال١٠ دراهم ٥٠٠ج وهي أقرب للمنطقي كحد ادنى لمن يحترف المهنة، بينما ١٠٠ درهم والتي ذُكرت صراحة كأجرة غلام الطلب عليه عالي تمثل قد تمثل الأجرة الأعلى في تلك المهمة في ذلك العصر.

ويذكر التيفاشي طرائف وعجائب جمعها من ترحاله، فمرة يذكر خدع ومقالب “القحاب” في الناس، ويرسم صورة لمجتمع تتم فيه اللقاءات والعلاقات الرضائية والتجارية في السر ولكنه سر يعلمه الجميع، فهذا يقابل فلانة تحت الشجرة، وذاك ينام مع هذا في الجامع فإذا وجده أحدهم لم يفعل شيئًا إلا نهره وانتظر أن ينتهيا حتى يدخل يصلي، وهذه تخون زوجها ولما جاء المنزل خبأت عشيقها في الدولاب، ويذكر أن كل فئات المجتمع منخرطة في أشكال العلاقات المختلفة على عكس ما يُشاع من كونها أشكال غريبة على مجتمعاتنا، فالكبير والصغير، الرجل والمرأة، المثلي والمغاير، القاضي والصوفي، الأمير والعامي كان الجنس والحديث عن الجنس جزءًا من حياتهم اليومية، وإن كان كتاب التيفاشي به مزيج من الهزل والجد، وإن كان ليس بكتاب تاريخ ولكن أهميته تكمن في تأريخه لثقافة الناس في هذا المجتمع تاريخهم الاجتماعي وما شغل حياتهم اليومية وكيف تصرفوا معها، فنجد نفسنا أمام مجتمع الجنس التجاري متغلغل في كل أضلعه وله قواعده غير السرية على الإطلاق وثقافة تحوم حوله ومشاهيره الذين سيرتهم على كل لسان لنرى مشهدًا من لوحة كبيرة من ماضي لم نعشه.

[١] نزهة الالباب فيما لا يوجد في كتاب، الباب الثاني

[٢] المرجع نفسه، الباب الثالث والرابع

[٣] المرجع نفسه، الباب السادس والسابع والثامن

[٤] https://doi.org/10.2307/3596341

[٥] A Mediterranean Society, Volume I

The Jewish Communities of the Arab World as Portrayed in the Documents of the Cairo Geniza, Economic Foundations p95-110

Author

انشر: