مناهج بحث المناهضة للاحتلال في دراسة الجنس التجاري في مصر

تناقش الأوساط الأكاديمية على نطاق واسع الأساليب المختلفة لمناهضة الاحتلال في مجال الأبحاث العلمية. تنبثق هذه الفكرة من دعوات الجنوب العالمي لمناهضة احتلال ليس فقط ما هو مادي، مثل الأراضي وإنما أيضًا ما هو معنوي مثل المعرفة.[1] إحدى محاولات التحرر المعرفي كانت بواسطة جون لو في كتابه بعد الطرق: الفوضى في أبحاث العلوم الاجتماعية حيث قام من خلاله بتحديد كيف تتشكل الظواهر الاجتماعية المعقدة وبالتالي استعصاء دراستها باستخدام أساليب البحث الأوروبية الأمريكية (الاستعمارية) المعروفة أيضًا باسم مدارس الفكر السلوكية أو الوضعية. وفقًا لجون لو، تهدف هذه المدارس إلى تجاهل التعقيدات بداخل الظواهر الاجتماعية والتعامل معها على أنها حقائق ثابتة ومتماسكة وواضحة ومبسطة. على سبيل المثال، عند وجود أي نمط يتعارض مع الأساليب الاستعمارية المستخدمة أو ما يبدو متناقضًا معها، يتم تبسيط الظاهرة من أجل جعلها واضحة وبالتالي فقدان الكثير مما تحمله من سمات أو تجاهل هذه الأنماط كليًا والتركيز على الأنماط المعتادة التي تثبت ما هو معروف مسبقًا. ومع ذلك، فإن، بالنسبة لجون لو، فالحقيقة تكمن في أن الظواهر الاجتماعية لها حقائق متعددة وغير متماسكة وغامضة ومتناقضة وغير محددة ومعقدة. لذلك فإنه يصعب فهمها من خلال نمط واحد متكرر. من ناحية أخرى، هذه ليست دعوة لتجاهل الأدوات الكمية في دراسة العلوم الاجتماعية ولكنه في الواقع دعوة لتوسيع أفقنا من أجل دمج هذه الأدوات في استيعاب الظواهر الاجتماعية المعقدة والتي هي قيد الدراسة. بعبارة أخرى، فإن لو يقترح أن الهدف هو التوقف عن استخدام الأساليب الاستعمارية وتبديلها بأساليب “Aboriginal) (“Aboriginal تترجم حرفيًا إلى السكان الأصليين في أستراليا). تلك الأساليب هي شكل من أشكال مناهضة الاحتلال المعرفي لمنهجية البحث المستوحاة من الشعوب الأصلية في أستراليا والتي تأخذ الإثنوغرافيا والاختلافات الثقافية كأركان رئيسية في دراسة الظواهر الاجتماعية.[2] يمكن تطبيق تلك الأساليب من خلال الدمج بين الأساليب الكمية والكيفية في دراسة عملية البحث ككل من البداية (السؤال البحثي) حتى النهاية (المنهجية) بدلاً من تقييدها في المنهجية فقط .يكمن السؤال إذًا في كيف  يمكن ربط تلك المقدمة ومناهضة الاحتلال المعرفي بظاهرة اجتماعية كظاهرة الجنس التجاري في مصر؟

الجنس التجاري هي ظاهرة اجتماعية تنتج عن أنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية وهي أيضًا نتاج للتفاعلات المستمرة بين هذه الأنظمة وأولئك الذين يعيشون في ذلك المجتمع. لذلك، فإن دراسة الجنس التجاري، مثلها مثل دراسة الظواهر الاجتماعية الأخرى، تتأثر بالأساليب الأوروبية الأمريكية الاستعمارية السائدة. في الأقسام التالية، سأقوم باستخدام أبحاث مختلفة قامت بدراسة الجنس التجاري في مصر من أجل محاولة إعادة تصور تلك الأبحاث إذا قمنا باستبدال الأساليب الاستعمارية المستخدمة بأساليب السكان الأصليين.

الأساليب الاستعمارية في الدراسات السابقة:

يمكننا أن نستنتج من الأبحاث الموجودة حاليًا عن الجنس التجاري أن أساليب البحث المستخدمة يمكن تقسيمها إلى سبع فئات أو مواضيع: 1) التحليل المكاني (الريف مقابل المدينة والبنية الهيكلية للقاهرة) 2) السياق التاريخي والسياسي (الحرب العالمية الأولى والثانية والاحتلال البريطاني والاحتلال الفرنسي والإمبراطورية العثمانية والاستقلال وصعود القومية) 3) الديناميات العرقية والاقتصادية (الوضع الاجتماعي والاقتصادي والعاملين بالجنس التجاري من الأوروبيين مقابل عاملات الجنس المصريين) 4) التسلسل الهرمي الاجتماعي للجنس التجاري والأنظمة الأبوية المتكاملة 5) القوانين الدولية والمحلية باعتبارها المنتجات الاجتماعية وكذلك القانون والأحكام والاعتقالات 6) اللغة والمفاهيم والمصطلحات والتعريفات 7) التركيبات الدينية. هذه الفئات السبع تم استنتاجها من كتب ومقالات مختلفة حاولت دراسة تاريخ الجنس التجاري في مصر، إلا أن الأساليب المستخدمة كانت أساليب استعمارية أوروبية أمريكية منها الكمية والنوعية.

تلك الأساليب واضحة، على سبيل المثال، في كتاب عبد الوهاب بكر مجتمع القاهرة السري حيث استخدم التحليل المكاني للقاهرة والسياق التاريخي لدراسة انتشار وتقنين الجنس التجاري منذ عام 1900 حتى عام 1951. تدور منهجيته حول دراسة الأماكن التي انتشر بها العمل بالجنس التجاري مثل منطقة البركة والأزبكية وغيط النوبي والموسكي وباب الشعرية (حيث توجد بيوت الدعارة سواء على شكل أكشاك أو منازل) ومنطقة الحوض المرصود (حيث تم إجراء الفحوصات الطبية الدورية على النساء الممارسات للجنس التجاري). اعتمد بكر في تحليله على محاضر الشرطة وتقارير الضرائب والاعتقالات والأحكام والقوانين والقرارات الحكومية والأوامر العسكرية. حيث قام بحساب عدد العاملات بالجنس التجاري غير المسجلين من خلال مقارنة عدد الاعتقالات مع عدد المعاملات المسجلين لدى الحكومة بالاعتماد على التقارير الضريبية والفحوصات الطبية. بالإضافة إلى ذلك، استخدم عدد العاملات بالجنس المسجلين وغير المسجلين لدراسة انتشار وانتقال الأمراض الجنسية في القاهرة. علاوة على ذلك، فقد ربط بكر الأحداث السياسية الدولية والمحلية بقانونية الجنس التجاري وتجريمه في مصر من خلال ملاحظة انتشاره قبل وبعد الأحداث السياسية الداخلية مثل الاحتلال البريطاني والإمبراطورية العثمانية والاستقلال وصعود جماعة الإخوان المسلمين والأحداث السياسية الدولية مثل الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.[3]

قامت شيماء عبد التواب في مقالها بغاء الدخل المصرح به للبلاد من العصر المملوكي حتى عهد محمد علي باتباع منهجية مشابهة لمنهجية بكرعن طريق العودة إلى الوراء أكثر بالأحداث التاريخية واتخاذ مصر القديمة كنقطة انطلاق لها حتى الإمبراطورية العثمانية. ولكن بدلاً من الاعتماد على التقارير والقرارات والقوانين والاعتقالات (مستوى التحليل المجتمعي) ، اعتمدت على شخصيات الحكام وأفعالهم وسلوكهم (مستوى التحليل الفردي). بعبارة أخرى، قامت بتحليل ما إذا كان الحكام أنفسهم متورطين في ما وصفته بالشؤون “غير المشروعة” و “اللاأخلاقية”.[4] اتبع بكر مسارًا مشابهًا من خلال تحليل الدراسات التي أجريت في ذلك الوقت حول ما إذا كانت المرأة التي تنخرط بالعمل بالجنس التجاري تشرب الخمر أو تتعاطى المخدرات وما هي حالتها الاجتماعية وما إذا كانت قريبة من والديها أم لا وأخيرًا ما إذا كان أحد والديها أم لا.متوفيين أو غائبين.[5] 

كانت الديناميكيات العرقية والتسلسل الهرمي الاجتماعي والدين من الجوانب المنهجية الأخرى لدراساتهم. من حيث الديناميكيات العرقية، فقد قام بكر بمقارنة الأسعار والطلبات وعدد الاعتقالات والفحوصات الطبية للعاملات في الجنس الأوروبيات في مقابل عاملات الجنس التجاري من المصريين. أظهرت النتائج أن النساء الأوروبيات كن أكثر تكلفة وكما أظهرت تمكنهم من التلاعب بالقوانين الحالية من خلال الامتيازات الأجنبية لتجنب التعرض للاعتقال أو للتهرب من الفحوصات الأسبوعية. فيما يتعلق بالتسلسل الهرمي الاجتماعي ، فإن الهيكل الاجتماعي ، الذي قال بكر إنه مشابه لهيكل الجريمة المنظمة ، التي تحكم العمل بالجنس في مصر ، تتكون من أربع درجات. تبدأ الدرجة الأولى من الأعلى وهم القوادين ، يليهم أولئك الذين يديرون بيوت الدعارة، يليهم المجندين أو السحابين (أولئك الذين يجندون النساء الجدد) ثم العاملات بالجنس التجاري في أسفل الهرم. أخيرًا من حيث الدين، توصلت الأبحاث إلى استنتاج مفاده أن الانخراط في العمل بالجنس يرتبط ارتباطًا سلبيًا بكون العاملات متدينات. بعبارة أخرى، يرتبط العمل بالجنس ارتباطًا مباشرًا بأعمال وممارسات “غير أخلاقية” أخرى.[6] 

كيفية التحرر من الاستعمار المعرفي لدراسة الجنس التجاري

هنا نقوم بطرح سؤالين: لماذا تصنف هذه المنهجيات الموضحة سابقًا على أنها أوروبية أمريكية أو بعبارة أخرى استعمارية؟ علاوة على ذلك ، كيف يمكننا كباحثين في العلوم الاجتماعية التحرر من الاستعمار المعرفي في دراسة العمل بالجنس التجاري في مصر؟

أولاً، اعتمدت هذه الدراسات على الروابط العاطفية السلبية الموجودة مسبقًا مثل الخزى والازدراء والعار. هذه الروابط العاطفية صبت التركيز على شكل واحد من أشكال الجنس التجاري بينما تتجاهل الأشكال الأخرى عن عمد. فمثلاً قد يجادل البعض بأن العمل الجنسي القانوني والمسموح به موجود ولكن بأسماء وأشكال أخرى. على سبيل المثال فكرة ملك اليمين[7] في الإسلام حيث يسمح للرجال بالدفع لرجال آخرين ( كالقوادين) مقابل اتخاذ النساء كعشيقات. هنا العمل بالجنس ليس مجرمًا أو محرمًا مما يثير الحاجة إلى علماء الاجتماع لاستكشاف ماهية تلك التناقضات.

ثانيًا، تتبع هذه المنهجيات تحليلًا تنازليًا من أعلى إلى أسفل مما يعني أنها اعتمدت على استكشاف العلاقة بين الشخصيات والأنظمة والسلطات من خلال تقارير الشرطة والاعتقالات والأوامر العسكرية وشخصيات الحكام والأبحاث التي تم إجراؤها. ومع ذلك، فقد فشلوا في استكشاف الحلقة الذي يعتمد عليها النظام بأكمله: النساء العاملات بالجنس التجاري. الاستكشاف هنا يعني إجراء مقابلات مع العمالات الحاليات وتحليل المعرفة غير التقليدية التي ينتجوها، مثل الحكايات والأفلام والمذكرات الشخصية والخطابات. على سبيل المثال، في كتابه كل رجال الباشا، يوضح خالد فهمي كيف يمكن معالجة التاريخ من الأسفل من خلال استكشاف كيف شعر الأفراد وتفاعلوا مع حلم محمد علي في بناء جيش حديث. كشف بحثه أن، على عكس الاعتقاد السائد، المصريين قد تم إجبارهم على أن يكونوا جزءًا من ذلك الجيش وأن الإمبراطورية العثمانية كانت المستفيد الوحيد وليس المصريين.[8]

دفع بحث خالد فهمي الفئة التي تم إسكاتها، هنا المصريون الذين أجبروا على تحقيق التطلعات العسكرية للإمبراطورية العثمانية، إلى الظهور حتى يتمكنوا من سرد القصة بأنفسهم بدلاً من الاعتماد على شخصيات ذات سلطة تروي القصة نيابةً عنهم. وبالمثل، ينبغي التعامل مع العاملات بالجنس التجاري بمنهجية إثنوغرافية تصاعدية. ولتحقيق ذلك، أجرت سارة عابد مقابلة مع بعض العاملات بالجنس الذين عبروا عن رأيهم الذي كان متناقضًا في كثير من الأحيان ولكنه كان غير مُبسط ولا يتبع نمطًا واحدًا على عكس ما اعتبرت الدراسات السابقة. فقد اعتبر بعضهن العمل بالجنس مثل أي عمل آخر مما يجعل من من حقهم الحماية الاجتماعية والقانونية بينما احتقر آخرون عملهم وأرادوا العثور على وظائف أخرى. أجبر البعض على ذلك بينما اختارها آخرون. كانت بعضهن متدينات ومحجبات والبعض الآخر ليسوا كذلك. هذا النوع من التناقض يستبعد التعميم، الذي سلم به بكر، أن جميع العاملات بالجنس يريدوا ترك مهنتهم ، وأن جميعهم يتعرضوا للاستغلال، وأن جميعهم يمارسوا أفعالًا “غير أخلاقية” أخرى أو أن جميعهم يقعوا ضحايا. في بحثها ، تمكنت عابد من جعل المشاركات المتحكمات الوحيدات في قصصهن.[9]

كيف يجب أن نغير منهجنا البحثي لدراسة الجنس التجاري في مصر؟

إن المنهجية التصاعدية تحتاج أولاً إلى التخلص من الخزى والعار والازدراء والافتراضات المتعالية. كما ينبغي أن يسمح للعاملات في مجال الجنس بأن يكن متناقضات وغير محددات وغير واضحات. بعبارة أخرى ، يجب أن يكن العاملات بالجنس، كمشاركات في إنتاج الأبحاث، هن من يصوغن الأسئلة. بمعنى، أن الباحثين يجب أن يسمحوا لأنفسهم بأن يكونوا جزءًا من الواقع الذي يلاحظونه. تكمن أهمية الإثنوغرافيا في أنها تعطي شعورًا بالملكية للمحاورات بالإضافة إلى الثقة في المعرفة التي يتم إنتاجها. بعد استخدام الإثنوغرافيا كقاعدة ، يمكن استخدام الأدوات الكمية للبحث عن الأنماط والتكرار مع إبراز التناقضات.

[1]  Vivetha Thambinathan and Elizabeth Anne Kinsella, “Decolonizing Methodologies in Qualitative Research: Creating Spaces for Transformative Praxis,” International Journal of Qualitative Methods 20 (May 4, 2021), https://doi.org/10.1177/16094069211014766.

[2]John Law, “Imagination and Narrative,” in After Method: Mess in Social Science Research (London: Routledge, 2004), pp. 137-139.

[3] Muḥammad ʻAbd al-Wahhāb Bakr, “Chapter 2,” in Mujtamaʻ Al-Qāhirah Al-Sirrī, 1900-1951 (al-Qāhirah: al-ʻArabī, 2001), pp. 25-50.

[4]  Shaimaa Abdel Tawab Sayed Abdel Majeed, “Prostitution the Country’s Permissible Income from the MAMULEK Era until the Mohammed Ali Reign,” Middle East Research Journal 4, no. 51 (September 2019): pp. 1-36, https://doi.org/10.21608/mercj.2019.52717.

[5] Muḥammad ʻAbd al-Wahhāb Bakr, “Chapter 4,” in Mujtamaʻ Al-Qāhirah Al-Sirrī, 1900-1951 (al-Qāhirah: al-ʻArabī, 2001), pp. 65-93.

[6] المرجع نفسه ، ص. 95-97.

[7] سماحة الدكتور نوح علي سلمان، ما المقصود بملك اليمين في قوله تعالى: (…أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)، دار الإفتاء المصرية، أغسطس ٢٠١٢، https://aliftaa.jo/Question3.aspx؟QuestionId=2654#.ZFghYC0RpQI

[8] Khaled Fahmy, All the Pasha’s Men: Mehmed Ali, His Army and the Making of Modern Egypt (Cambridge: Cambridge University Press, 2021).

[9]Sara Abed, “How Do Sex Workers Perceive Their Working Identity? Case Studies in Egypt,” Kohl: A Journal for Body and Gender Research 2, no. Winter (2016): pp. 245-261, https://doi.org/10.36583/2016020215.

Author

انشر: