كان لمجتمع صناعة الجنس التجاري خصوصية خاصة وكان مجتمع طبقي بامتياز وكان يتميز بوظائف محددة كانت ذات خصائص محددة وواضحة وكان ذلك النظام الاجتماعي هوا الحاكم البديل لغياب السلطة التنفيذية التي غالبا ما تلعب دور الحكم ما بين الافراد في المجتمع، فعلى الرغم تمرير اول اللوائح لتنظيم تلك الصناعة في 1896 الا انها بقت حبر على ورق، خصوصا على الأجانب العاملين/ات في تلك الصنعة فوفقا لقوانين ذلك الزمان كانت القنصليات الأجنبية هي المختصة بالنظر في الأمور القضائية الخاصة بمواطنيها.
وبداية قبل الحديث عن ذلك الهرم الاجتماعي لابد ان نوضح ان كان هناك عالمان موازيان للجنس التجاري في مصر حتى العام 1951
العالم الأول وهو المرخص المقنن من الدولة وكان يتم اصدار تراخيصه من وزارة الداخلية وكان لوزارة الداخلية جهاز خاص بمراقبة تلك المنازل والتأكد من عدم مخالفتها اللوائح وانتشر في مناطق محددة في القاهرة والمحافظات كباب الشعرية والسبع بنات.
العالم الثاني وهو العالم خارج اطار القانون وكان يعرف بالبيوت السرية حيث كانت تقوم بيوت للجنس التجاري في خارج اطار الاحياء المخصصة لذلك وكان من الصعب مراقبتها وتحيدها خصوصا في فترة الحرب العالمية الثانية حيث ازدهرت تلك المنازل بالعاملات الاجنبيات الذين قدموا الى مصر لخدمة تلك الصنعة المزدهرة، اما خارج البيوت السرية فكان يوجد “نظام الحفر” الذى كان يزدهر بشدة في فصول الصيف في ناحية “الجبل الأحمر” بعد حي العباسية و “تل زينهم” ناحية السيدة زينب حيث كانت تلك المناطق ملئها بالحفر وكان تتأخذ منها كل فتاة منزل لها لممارسة مهنتها وهذه الحفر كانت الدولة تقوم بحفرها لحماية المدينة من الفيضانات.
المقطورات:
يبدا الهرم الاجتماعي لتلك الفترة بفئة المقطورات ويقصد بذلك العاملات بالجنس التجاري وكانت تلك الفئة تنقسم على ذاتها الى هرم اجتماعي اخر صغير حيث نجد على قمة ذلك الهرم “الارتست” الاوربيات الذات كانوا يقيموا في الانحاء الراقية بالمدينة ويوفروا خدماتهم لعلياء القوم والفئة الثانية كانت للعاملات من الجنس التجاري الاوربيات أيضا ولكن من ذوات الطبقة المتوسطي وكانوا يتواجدوا بكثرة في شارع وجه البركة على الرغم من عدم وجود ذلك الشارع في قائمة الاحياء المرخصة وأخيرا نجد طبقة الوطنيات أو الاجنبيات الغير اوربيات ومن ثم نجد هرم اخر اصغر في فئة الوطنيات حيث كانوا ينقسموا الى “العاهرات المستترات” اللاتي كن يطفن بشوارع المدينة بعربة أو ماشيات وبجانبهم غلام يعد وسيطا أو مقاول, ثم فئة “المغنيات والراقصات” وكان يسكنوا بمنازلهم الخاصة ويمر عليهم من يرغب واخير نجد فئة “الموطؤات” وهن ساكنات “الوسعة” ويبقوا فيها لا يخرجوا يجلسوا خلف الشبابيك ناظرين المارة لاصطياد الزبائن.
الساحبين:
جاءت تلك الطبقة فوق المقطورات في الهرم الاجتماعي وكان هؤلاء الأشخاص منوط بهم مهمة “سحب” الفتيات للعمل في المنازل بالإضافة الى توفير جميع احتياجات المقطورات من الطعام وأدوات التزيين واخذهم الى مستشفى الحوض المرصود لعمل الكشف الدوري المطلوب من العاملات المسجلات لدى وزارة الداخلية، بالإضافة الى دفع الضرائب بالإنابة عن صاحب/ة المنزل للدولة.
البرمجي والبلطجي:
كان ذلك الرجل القوى الذى كان يقوم بدور “عشيق” للعاملات بالجنس التجاري ولا يقصد بالعشق هنا الحب أو الانجذاب العاطفي فمعظم تلك العلاقات كانت قائمة على مبدا المصلحة المتبادلة حيث احتاجت العاملات الى رجال اشداء لحمايتهن من مخاطر تلك المهنة وفى المقابل كانت العاملة بالجنس التجاري توفر علاقة جنسية واحيانا عاطفية طويلة الأمد للبرمجي بلا مقابل وكانت تلك العلاقات تشبه في اصلها الزواج ولكن الفرق الوحيد هو عدم وجود ورق يثبت ذلك وسبب التسمية يرجع الى الطعام التي كانت تقدمه العاملة بالجنس التجاري للرجل فكانت تعده في “طاجن” وكان هذا يسمى “البرمة” فأطلق عليه لفظ “البرمجي”
الفئة الأخرى في تلك الطبقة كانت “البلطجي” فالرجل اذا كان عنيف ويمارس الأداء البدني على العاملة بالجنس التجاري كان يطلق عليه “بلطجي” وكان يتخذ “البلطجي” عادة اكثر من عاملة كعشيقة له وكانوا يعملوا كجنود لراس التنظيم المعروف القواد حيث كانوا يقيموا بحماية العاملات ومراقبة رجال الشرطة وتوصيل العملاء ذوو الشأن العالي.
البادرونة والعايقة:
النسوة العريقات في تلك التجارة اللاتين تعدوا سن الخمسين وكانوا يقعوا في الطبقة الثانية في الهرم وكانوا يقوموا بإدارة البيوت حيث كانوا يجلسن في مقدمة البيوت لاستقبال الزبائن وتحصيل الأجرة، كما التأكد من جهازية العاملات لاستقبال الزبائن وكان يعرف عنهم الاستغلال الشديد للعاملات حيث كان يميلن الى التحصل على كمبيالات منهم أو وصالات امانة باستلام العاملة للحلى الذهبية كضمانة لعدم هروبهم.
من المثير للاهتمام تواجد ما كان يطلق عليه “ميثاق شرف” في تلك الطبقة فيما يخص ملكية العاملات بالجنس التجاري, فلا يجوز ان تقبل “البادرونة” لعاملة على ذمة “بادرونة” أخرى واذا ارادت “بادرونة” ان تستقبل عاملة يجب ان تقوم تلك العاملة بتسديد كافة ديونها “للبارونة” السابقة ويمكن ان تقوم احدى “البارونات” الراغبات بعاملة معينة ان تقوم بشرائها من مالكتها السابقة بعد تسديد ديونها والاغرب من ذلك هو احترام السلطات لذلك الميثاق فنجد ان في مستشفى الحوض المرصود كانت لا تخرج العاملة الا بعد ان تستلمها مالكتها وكما احترام رجال الشرطة لتك الكمبيالات والوصولات التي كانت تستخدمها “البارونات” لاحتجاز العاملات في البيوت.
أما عن التسمية فلا يعرف من اين جاء كلمة “عايقة” بالظبط وان كان يرجع انه كان يقصد بها المتزينة وذلك لتزين هؤلاء النسوة المبالغ فيه أما عن كلمة “البارونة” فهي تعود الى اللغة الإيطالية ((Padrona وتعنى الملكة او المغنية على الباخرة.
القواد:
يجلس على القمة متربعا ينظر على أبناء الإمبراطورية القائمة الخاصة به هو القواد وكان في اغلب الأوقات اكثر استغالا وشرا من البادرونة حيث كان يعيش على ما تتحصل عليها العاملة ولا يهتم بالظروف التي قد تمر بها العاملة من مرض أو تعب, فاذا جاء لها بزبون كان يجب عليها ان تأخذه ولا يمكنها الرفض وكان القواد لا يعطى للعاملة أجرتها كاملة بل كان يعمل على اقتطاع نسبة كبيرة لنفسه بناء على خدمات وهمية يقدمها لها وليس لها وجود الا في مخيلته ولقد كان البوليس داهم منازل احد كبار القوادين وتجار الرقيق الأبيض في العام 1923 على اكوام من الدقة وغرائر من البصل وقدورا من المش لا حصر لها وتبين لاحقا ان هذا “الطعام” كل ما كان يقدم للعاملات اللاتي يحتجزهن في البيوت الخاصة به.
أما قواد الحفر في منطقة “تل زينهم” و”الجبل الأحمر” كان لديهم أسلوب أكثر انحطاطا من أصحاب البيوت مع العاملات حيث كانوا يرغموا العاملات على افتراش الحفر وممارسة العلاقات مع الزبائن وعند نهاية اليوم كان على العاملة تقديم “كيزانا” ومفردها “كوز” تمتلئ بالسائل المنوي للزبائن الذين اقاموا معها في اليوم وعلى هذا الأساس تتحصل على الأجرة.
عالم موازي:
لم تكن تلك التجارة منحصرة على النسوة فقط، بل يوجد دلائل تاريخية على ان الرجال عملوا كعاملين بالجنس التجاري أيضا في تلك الفترة وان كانت المشكلة في دراسة الهرم الاجتماعي الخاص بهم وذلك لعدم اهتمام رواد ذلك العصر بتسجيل تلك الظاهرة والتركيز فقط على عالم العاملات بالجنس التجاري ولكن يوجد فئات يمكن ذكرها.
الخولات والجنكية: هم الرجال الراقصون الذين ظهروا بعد ما منع محمد على النسوة الراقصات من القاهرة فلبس هؤلاء الرجال لبس النسوة وتقلدوا في حركاتهم وكان المصريون من هؤلاء الرجال يسمون (خولات ومفردها خول من الفعل يخول) ومن الأجانب (جنكية ومفردها جنكى).
الصرمحة وهم الرجال المغايرين العاملين بالجنس التجاري الذين كانوا يقتاتوا على ممارسة المهنة مع النسوة في الاغلب من كبار السن والاجنبيات وكان يعرف عنهم الذهاب الى منازل الزبائن أو تأجير غرفة في احدى البيوت الرخصة للممارسة الجنس التجاري.
الحصنجية ومفردها حصنجى وكان يقصد بها الرجال من المثليين السلبيين وكانوا يتواجدوا بكثرة بقهوة “اللوفر” في اول شارع وجه البركة وميدان العتبة وشارع كلوت بك وكانوا معروفين بالمنظر الأنثوي المخلوط مع الملابس الرجولية وكان يتخذ لكل منهم اسم نسائي وعشيق وأحيانا كان ينصب القوى منهم نفسه قوادا على الأخيرين.
في النهاية نجد ان النظام الاجتماعي المتواجد في تلك التجارة كان طبقي واستغلالي بامتياز وانعكاس للنظام الاجتماعي المتواجد في المجتمع الأكبر المصري في تلك الفترة الذى كان معروف بالطبقية الشديدة فيها وبالنظم الاستغلالية الأخرى التي كانت متواجدة في جميع الصناعات في ذلك الوقت ولكن هذا لا يعنى ان الوضع كان مأساوي لجميع العاملات بالجنس التجاري ولا ان الكل كما يروج بعض من الكتاب التاريخين مسلوبي الإرادة وضحايا وقعن في فخ الجنس التجاري فالكثير منهم قرر الخوض في تلك المهنة بما فيها من مخاطر بسبب رغبتها فذلك, كما ان الرجال المثليين والمغايرين العاملين في تلك المهنة كان يتم تقبلهم من قبل المجتمع بشكل مقبول. استمر ذلك النظام الاجتماعي حتى العام 1949 حين صدر قرار الحاكم العسكري رقم (79) الذي يقضى بإلغاء بيوت الدعارة وتبع ذلك اول قانون يجرم العمل بالجنس التجاري بالكامل في مصر بالعام 1951.