Search
Close this search box.

|

الجنس والطب والسلاح: صفحات من تاريخ الجنس التجاري في مصر الحديثة

بمجرد أن بدأ عملي في الوعظ ، نزلت النساء من الغرف حولي و شتمنني بألسنة عديدة ، ولغات عديدة من بلاد الشام ، وبالفرنسية ، والعربية ، والإيطالية ، واليونانية ، والإنجليزية المكسرة … أخيرًا  أغضبتهم حقيقة أنه لم يكن هناك رجل واحد يدخل منزلهم ، حاولت سيدتهم (المرأة التي تشغل المكان) ، كما فعلوا في مناسبات مماثلة عمومًا ، إثارة الشغب.

-Guy Thornton, Chaplain of the Australian and New Zealanders Army 1916

الصدمة الفرنسية ومحمد علي:

كانت وما زالت العلاقة بين الدولة المصرية الحديثة (منذ الاحتلال الفرنسي وحتى الآن) والجنس التجاري علاقة معقدة، ورغم أن الحكام من العثمانيين والمماليك قبل الحملة الفرنسية قننوا الجنس التجاري ونظموه بتسجيل العاملات والقوادات وفرض الضرائب ولكن هذا كله كان لغرض جمع الضرائب والأموال فقط بدون اي خدمات في المقابل او اهتمام بالعاملات او زبائنهن، وكانت الضرائب المفروضة على الجنس التجاري تمثل مصدر دخل كبير خاصة لرجال الادارة والمسئولين فتصل الضرائب الرسمية المحصلة من العاملات في حدائق القبة فقط ١٠٦١٦ نصف فضة (عملة ذلك العصر)1، بينما كان الوالي (مدير امن العاصمة) ورجاله يدخل في جيوبهم ما يزيد على ٥٠٠٠٠ نصف فضة شهريًا وفقا للجبرتي، فقد كانت مسألة الجنس التجاري بالنسبة لهم مسألة مالية ومصلحة بحتة، ولم تخطر المسألة الصحية على البال قط حتى الحملة الفرنسية على مصر… وأقام الفرنجة في غيط النوبي بالقاهرة بيوتا خاصة للجنس التجاري وقننوه وفرضوا رسومًا عليه، حتى عام ١٧٩٩ حيث منع الفرنسيون محال الجنس التجاري ٣٠ يوما إعتقادًا بانها كانت احدى وسائل انتشار الطاعون المنتشر في ذلك العصر، فنشأ مع الدولة المركزية الحديثة والجيوش النظامية التي جلبها الفرنجة نوعًا من القلق الصحي العسكري تجاه الجنس التجاري، نجد صداه في عصر محمد علي وحملاته على سوريا2

 في شتاء ١٨٣١م، عانت المستشفيات الميدانية في سوريا تحت وطأة الاعداد الكبيرة من جنود جيش محمد علي المصابين بالزهري ، مما دفع كلوت بيك رئيس أطباء الجيش المصري إلى كتابة رسائل إلى اطباء الجيش لفحص الرجال دوريًا وكيفية الاعتناء بمرضى الزهري مؤسسًا لموقف كلوت بيك الذي سيتكرر من الجنس التجاري وآثاره الصحية على المجتمع، مُنعت الحانات والبارات في سوريا عام ١٨٣٢-١٨٣٣م خلال الحملة المصرية لأسباب عدة اهمها مشاكل الانضباط التي سببها في الجيش الجنود السكارى والعاملات المتواجدين في المعسكرات، وانتشار الأمراض الجنسية بين الجنود تحت وطأة الضغط الغريزي لممارسة الجنس في غيابهم عن زوجاتهم لسنوات2، وبإدراك ذلك استجاب محمد علي لطلبات الجنود بالسماح برفقة زوجاتهم لهم في الحرب مما خفف من تذمرات الجنود المحرمون من طلب الجنس التجاري.

 عام ١٨٣٤م وتحت تأثير التجربة السورية ومشاكل الانضباط العسكري والامراض الجنسية، وإرضاءًا للشيوخ والرأي العام، منع محمد على الرقص العمومي والجنس التجاري  في القاهرة وفرض عقوبة ٥٠ جلدة في المرة الأولى، وبالسجن مع الاشغال الشاقة لمدة سنة او اكثر في حالة تكرار المخالفة، ورغم ما قد يظنه البعض من أن القرار قد كان حلا مناسبا للمشاكل العسكرية والصحية التي كان يمثلها الجنس التجاري إلا أنه على النقيض قد أدى لانتشار الجنس التجاري غير الرسمي على نطاق واسع.

ربما يكون لكلوت بيك الفضل الأول في النهضة الصحية للنظام الصحي المصري على النظام الغربي الحديث، فكان من أشار على محمد علي بإنشاء مدرسة الطب وتعرف حاليا بقصر العيني أقدم كلية طب في مصر، وأدخل التطعيم ضد الجدري في مصر، بالإضافة لإسهاماته الطبية أثناء حملات محمد علي التي ذكرنا جزءًا منها. في عام ١٨٤٧ وصلت تقارير لكلوت بيك عن تفشي الزهري بين طلاب المدارس العسكرية، والتي ربطها بانتشار الجنس التجاري غير المُنظم، وكتب للخديوي رسالة ينصح فيها بضرورة الفحص الطبي الدوري عن العاملات بالجنس التجاري وعلاجهن كما يحدث في اوروبا، وكانت الرسالة مشوبة بنوع من العنصرية الاوروبية واصفا العاملات المصريات بأنهن” لا يجدون حرجا في ممارسة الدعارة، فلن يجدون حرجا في الكشف الطبي.. وسنقدم خدمة مجانية لهم ولزبائنهن”. ونوه كلوت بيك ان الزهري أخطر من الطاعون، وأكد على ان منع الجنس التجاري ليس حلاً لأن الرجال سيجدون وسائل أخرى أكثر لاأخلاقية -في نظره- كالمثلية والزنا2.

الإحتلال البريطاني وما بعده:

رغم الملاحظات والنصائح المبكرة من كلوت بيك إلا أن التطبيق الفعلي لهذا النظام الذي طالب به لم يبدأ إلا مع الاحتلال البريطاني لمصر ١٨٨٢م، حيث جاء الإنجليز بفلسفة مختلفة عن فلسفة المصريين في الجنس التجاري، فرأى الإنجليز العاملات به لا خاطئات -وكن يعرفن في مصر بالخواطي من ضمن أسماء كثيرة- ولكن كضحايا للظلم الاجتماعي والاقتصادي، وفي نفس الوقت مصدر قلق صحي كبير، وبعد أشهر قليلة من الاحتلال أُصدر منشور للكشف عن العاملات للحد من انتشار الأمراض التناسلية، وفي عام ١٨٨٥م أصدرت اللائحة الأولى للتفتيش على العاملات وأنشئ أول مكاتب لفحص العاملات في القاهرة والأسكندرية،  وتم تعديل هذه اللائحة مرة أخرى في عام ١٨٩٦ ثم عام ١٩٠٥ الذي شهد اكتمال آخر لائحة لتنظيم الجنس التجاري من ٢٨ مادة والتي استمر العمل بها حتى عام ١٩٥١ ومنع الجنس التجاري تماما في مصر3. نصت لائحة عام ١٩٠٥ على عدة قواعد تهتم بتحديد شروط محال الجنس التجاري ووصفها وصفات العاملات بها وسنهم، كما نصت على تجديد رخصتهن سنويا مع الكشف الطبي الأسبوعي وتعليمات العلاج بالاضافة للعقوبات المترتبة على مخالفة بنود اللائحة.

قبل الحرب العالمية الأولى كان جنود الاحتلال مسموح لهم بممارسة الجنس مع العاملات الاجنبيات فقط، اللائي لم يُدرجن  ضمن اللوائح الرسمية حتى عام ١٩١٤م، حيث كان يرى الاوروبيون ان المصريين والشعوب غير الانجلو-ساكسون اقل مرتبة واخلاقا منهم، ويمكن إيجاد صدر هذا الاعتقاد في بعض كتابات كلوت بيك أيضا، وارتبط هذا الاعتقاد بأن العاملات غير الأوروبيات تحملن أنواعا اكثر خطورة واسرع انتشارا من الزهري، لذلك  كان هنالك نوع من التفرقة بين العاملات المصريات وغير المصريات، ورغم ذلك كانت نصب الاصابة بالأمراض الجنسية بين جنود الاحتلال في مصر عام ١٩١٢ ١١٪ أعلى من الهند وبريطانيا اللاتي كانت معدلاتهم ٥.٥٪.

أثناء الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨م), عادت المخاوف العسكرية من الأمراض الجنسية، وفي أبريل عام ١٩١٥ قامت معركة حارة الوزير “معركة الوسعة” بين الجنود الاستراليين والعاملات بالجنس التجاري إثر شائعات عن إصابة الجنود بأمراض جنسية من العاملات، ودارت عدة معارك وانتفاضات من العاملات بعد ذلك، مما أسس لعلاقة قلقة بين الاحتلال البريطاني و الجنس التجاري مهدت لنشوء تيار من داخل القيادات العسكرية تهدف للقضاء تمامًا على الجنس التجاري كأحد مصادر “الشر”.

 تذكر التقارير الاسترالية أن اكثر من ٦٠٠٠ جندي استرالي (١٣٪) عولجوا من الامراض الجنسية في القاهرة عام ١٩١٦م، بينما وصلت نسبة الجنود الإنجليز المعالجين من الامراض الجنسية ل١٢٪ في نفس العام. نشأ نوع من الجدال في تلك الفترة حول مخاطر الجنس التجاري في الاوساط النخبوية والعسكرية والصحية، وكيفية علاجها ترتب عنها انقسام الرأي العام بين سلطات الإحتلا إلى رأيين، الرأي الليبرالي الذي رأى ان الحل في تنظيم الجنس التجاري، والرأي المحافظ الذى رأى ان القضاء على الجنس التجاري تماما هو الحل للقضاء على الامراض الجنسية.

لجنة التطهير والحرب العالمية الأولى:

تشكلت “لجنة التطهير بالقاهرة” عام ١٩١٦ من القيادات العسكرية وبعض الشخصيات العامة والأطباء حول المخاطر الصحية للجنس التجاري لتختبر مدى صلاحية مواد لائحة ١٩٠٥م وكيف تُطبق، وتوصلت إلى أن طرق الكشف المنصوص عليها في القانون واللوائح لا تطبق على الوجه الصحيح مما أدى لأن 2-4% من العاملات الرسميات التي كشف عليهن مصابات بأمراض تناسلية و6-30% من العاملات غير المسجلات التي قبض عليهن مصابات بأمراض تناسلية مختلفة3. طالبت اللجنة الحكومة بإجراءات راديكالية ل”تطهير” القاهرة تتضمن أولا التعليم الأخلاقي الصارم للجنود والظباط وثانيا، إخضاع كل من الآتي للإيقاف تحت سلطة القوانين العرفية:

١- الراقصين والراقصات

٢- المثليين

٣- القوادون ومحال الجنس التجاري

٤- من ثبت نقلهم للأمراض الجنسية للآخرين

٥- الخمور والحشيش والكوكايين

وكانت من الاصوات التي طالبت بالتطهير الأخلاقي للجنس التجاري جاي ثورنتون القسيس والنقيب المسئول عن فرقة المشاة النيوزليندية في القاهرة، الذي دخل في صراعات كثيرة مع العاملات بالجنس التجاري في محاولات “لإنقاذ” الجنود النيوزلينديين من الوقوع في براثن الجنس التجاري عبر عظاته التي عادة ما هاجمته العاملات فيها.

واستمرت لجنة التطهير في عملها حتى انقضاء الحرب العالمية الأولى، والذي لم يكن في غاية الفعالية، فبمحاربة الجنس التجاري الرسمي انتقلت العاملات ببساطة لاماكن أقل مراقبة من الحكومة، بعضهم انتقلن لأماكن اكثر شعبية يندر وجود الشرطة فيها، بعضهن تخفين في صورة “فنانات”، مما أدى لمطاردة السلطات للفن والفنانات في فورة من الغضب الأخلاقي لما يمثله الفن من “قلة ادب”

ونشأ داخل لجنة التطهير آراء تطالب بالوقاية الكيميائية ضد ال”طهارة الأخلاقية” التي طالب بها غالبية اعضاء لجنة التطهير، كممثلين لكلا وجهتي النظر الليبرالية والمحافظة داخل اللجنة، وكانت تتكون حزم الوقاية الكيميائية التي توفرت للجنود فقط من مرهم كالوميل ضد الزهري وأقراص برمنجنات البوتاسيوم لمنع مرض السيلان، ونشأت عيادات للتطهير بعد الجنس في مصر عام ١٩١٦ تخدم الجنود قبل ذهابهم للمعسكرات بعد الجنس، تقوم على غسل القضيب بسوائل مختلفة لتطهيره، والتي لم تلق رواجا كبيرا ولكن أثرت في الثقافة المصرية بعد ذلك، وكان المحافظون معارضين لمثل هذه الوسائل لأنها ت”نورماليز” الجنس التجاري وتعطي للجنود احساسا بالأمان بينما يجب أن يشعروا بالخجل لما يفعلونه⁴.

وبعد الحرب العالمية الأولى، استمرت وجهة النظر المحافظة داخل الجيش البريطاني الداعمة للقضاء على ارتياد الجنود لمحال الجنس التجاري في السيادة الظاهرية رغم استحالة التطبيق، فقد كانت هنالك بعض محال الجنس التجاري المميزة التي يُسمح للجنود الذهاب إيها باريحية وتخضع لرقابة وثقة القادة الإنجليز، وفي عام ١٩٢١ تقرر منع جميع جنود الاحتلال البريطاني من ارتياد أي بيوت للجنس التجاري، وتأكيد ذلك في منشورات عدة مرات عام ١٩٢٥م، ولكن كل هذه المنشورات الرسمية لم تكن قابلة للتطبيق وظلت قوات الاحتلال الإنجليزي في مصر متخبطة بين المثل العليا المحافظة “المتمدمنة” التي تدعي أنها تمثلها، وعدم واقعية تلك المثل، تكتب الآنسة فلورنس ويكفيلد الناشطة بحقوق المرأة واصفة الوضع بعد سؤال احد الظباط السابقين⁴:

 تشعر السلطات العسكرية في مصر أنها لا يمكنها أن تتوقع من الجنود أن يمارسوا ضبط النفس المستمر، وأنه “يجب أن يُسمح للرجال بتفريغ الضغوط أحيانًا”. ولذلك، يتم منح إذن من خلال “تلاعب لفظي” لزيارة بعض البيوت في إحدى المناطق المنفصلة. سألت العقيد كيف يعرف الرجال أي البيوت يذهبون إليها؟ بعد لحظة من التفكير، قال إنه لا يعرف. تلقيت المعلومات في وقت لاحق من ضابط شرطة بريطاني شاب كان في الجيش في مصر حتى عام 1929 والذي لا تزال مهامه تأخذه أحيانًا إلى الثكنات.

ظلت الأفكار التي نادت بها لجنة التطهير  من القضاء على الجنس التجاري عن طريق التعليم الأخلاقي تتردد في الفكر المصري طيلة السنوات التالية، وكذلك شغلت المعضلات الطبية والإجتماعية العقل المصري الذي انقسم بدوره بين المُنظمين والهدامين، حتى انتصر الهدامون وتم المنع التام للجنس التجاري في مصر بالأمر العسكري رقم ٧٦ لسنة ١٩٤٩ بهدم جميع بيوت الجنس التجاري، ولكن هذا كان فصلا واحدا من فصول الجنس التجاري والصحة الجنسية في مصر اكتشفنا فيه هذه العلاقة المتوترة بين الجنس التجاري والجيوش ومتى بدأت، وفي المقالة القادمة سنستعرض فصلًا آخر عن أحوال العاملات بالجنس التجاري الصحية بالتفصيل تحت ضوء شهادة من دكتور أمراض تناسلية عاش في عشرينات القرن الماضي وشهد خباياه.

المصادر:

(1) البغاء في القاهرة خلال العصر العثماني (١٥١٧-١٧٩٨م) د. حامد عبد الحميد مشهور

(2) Khaled Fahmy,  “Prostitution in Egypt in the Nineteenth-Century,” in Outside in: On the Margins of the Modern Middle East, ed.

(3) مجتمع القاهرة السري (١٩٠٠-١٩٥١م). د. عبد الوهاب بكر

(4) Let down the curtains around us” : sex work in colonial Cairo 1882-1952

Author

انشر: