Search
Close this search box.

|

النوبي: سبب الرقابة الفنية في مصر

الفنان سيد سليمان، هو أحد فناني مصر ذو أصولٍ سودانيةٍ، ومنولوجست من مواليد النوبة عام ١٩٠١م، وُلِد الفنان الراحل سيد سليمان في أرض النوبة بجنوب مصر لأسرة ميسورة الحال، فقد كان والده يعمل بمهنة المحاماة حيث التحق بمدارس الفرير وأتقن اللغة الفرنسية، إلا أن والده تعرض لأزمةٍ ماليةٍ دفعته إلى عدم استكمال دراسته، واتجه الى الأعمال البسيطة. وفى مرحلة الشباب، ظهرت على سيد سليمان موهبته الفنية، حيث كان لديه القدرة على تقليد المشاهير في ذلك الوقت، ثم بدأ البحث عن الفرق المسرحية للالتحاق بها. وبالفعل التحق بفرقةٍ “بديعة مصابني” والتي كانت تعد من اشهر الفرق الفنية في ذلك الوقت، وبدأ في إلقاء المنولوج حيث لاقى إعجاب الكثيرون، وبدأ الناس يُقبِلون على سماع منولوجاته.

ويُعَد سيد سليمان من الأسباب الرئيسية التي أدت الى ظهور الرقابة على الأعمال الفنية، حيث قام بإلقاء أحد المنولوجات الكوميدية الشهيرة “الشيخ العايق” عام ١٩٢٧م، والتي كان يناقش من خلالها ظاهرة التحرش اللفظي للفتيات في الشوارع، والتي كانت كلماتها:

محسوبكم جونسون العايق

 قوى فى الأبهة لايق

ماشي اتمتختر

 بلطافة للنزهة

 فكرى رايق

بصيت لقيت

 قدامي حاجة حلوة

 وزى البطة

قربت عليها بخفة

وغمزتها راحت نطة

قال لي هي هي هيء

قلت يا حوستي

أنا أموت

 أنا أدوب

إنتي عروستي

لقد لاقى هذا المنولوج شهرةً كبيرة، وعلى الرغم من أن كلمات المنولوج عادية، إلا أن سيد سليمان ارتدى زيًا غريبًا عبارة عن قميصٍ وبنطلون وسديري بدلة سموكن وفوقها معطف حريري، وفوق رأسه عمامة كشيوخ الازهر. وهو خليط بين أنواع الملابس المتداوَلة في ذلك العصر، بما فيها الزي الأزهري. وكان الهدف من تنوع اللبس إظهار التنوع المجتمعي وتفشي ظاهرة التحرش في جميع طبقاته، إلا أن مع شهرة المنولوج في مصر، اعتبر الازهر الشريف أن المنولوج إهانة لرجال الدين وهاجم سيد سليمان في الصحف، وتقدم بشكوى ضده في مجلس النواب ووزارة الداخلية حتى صدر قرارًا رسميًا بضرورة عرض أعماله الفنية على لجنة خاصة قبل عرضها على الجمهور، وتم تعميم القرار على كافة الأعمال الفنية، وكانت تلك الحادثة هي بداية ما يسمى الآن بالرقابة على المصنفات الفنية.

ويذكر سليمان في مقال له بمجلة الكواكب صدر عام ١٩٥٢م تحت عنوان “المونولوج الذي خلق الرقابة” وتابع سليمان قائلاً: “ذات ليلة كنت فى طريقي إلى داخل المسرح ورأيت ثلاثة من طلبة الأزهر يقفون وأحدهم يقول للآخر: “ده صنف مينفعش معاه غير القوة”، ورفعت الستار وأنا أشعر بالخطر وبدأت فى إلقاء المنولوجات، ولكن هتف الجمهور “عاوزين جونسون”، فاضطررت لغناء المونولوج”. واستكمل المنولوجست باقي الحكاية قائلاً: “بعد إسدال الستارة جاءني طلبة الأزهر وحاولت إقناعهم بالهدف من المونولوج وأنه لا يحوي أي تعريض بهم، ولكنه نقد فكاهي لما يحدث في الواقع، وأن الملابس التي أرتديها ماهي إلا كاريكاتير مجسم لا أقصد بها الإساءة لهم، ولكنهم لم يقتنعوا”.

وأضاف: “توالت البلاغات إلى وزارة الداخلية تشتكي مونولوج الشيخ جونسون، وفى هذا الوقت، ذيعت بعض الأغاني الخليعة ومنها منولوج “ارخى الستارة اللي في ريحنا”، وهو ما ساعد في أن تستجيب وزارة الداخلية لطلب الأزهر في إيجاد رقابة على الأغاني، وأرسلوا لي إنذارًا بعدم إلقاء أي منولوج قبل عرضه على الرقابة، وأمرًا بالامتناع عن إلقاء منولوج الشيخ جونسون سبب الأزمة”. عاش سليمان حياته متنقلًا بين الفرق المسرحية “بديعة مصابني، الكسار، ببا عز الدين”، وبلغ إجمالي أعماله السينمائية والمسرحية ٤١ عملًا، بدأها فى السينما الصامتة بفيلم “البحر بيضحك ليه” ١٩٢٨م إخراج ستيفان روستي، ليترك بصمته في تاريخ السينما المصرية رغم قلة ظهوره في أدوار السينما، وآخرها مسرحية “إلا خمسة”.

علي الرغم من أنه عند التحدث عن الرقابة الفنية في مصر، يتم البدء بذكر حادثة منولوج الشيخ العايق، إلا أن مصر قد عرفت الرقابة لأول مرة خلال حملة بونابرت على مصر، فقدم الفرنسيون المسرح والرقابة عليه، والتي كانت بمثابة تطبيقٍ لقانون كان ساري المفعول في فرنسا منذ عام ١٧٩٠م. وفى عهد “محمد على باشا”، تم وضع اللوائح الأولى للسيطرة على المسرح، واشتراط تقديم النصوص المسرحية إلى لجنة لفحصها.

ويبدو أن أول تطبيقٍ لهذه الرقابة كان على مسرحية يعقوب صنوع “الضرتين” التي تعارض تعدد الزوجات، وقد أغضبت الخديوي فنصح المقربون صنوع باستبعادها، واستبعدها بالفعل لإنقاذ مسرحه. وبعدها قدم ثلاث مسرحياتٍ أخرى نجحت جماهيريًا وأُعجِب بها الخديوي نفسه. إلا أن بعض ذوي النفوذ أوعزوا للخديوي بأن المسرحيات تتضمن إشاراتٍ وتلميحاتٍ خبيثة ضده وضد حكومته، فأمر بإغلاق المسرح.

أما الخديوي توفيق فقد أصدر أيضًا قرارًا بوضع أسس قانون المطبوعات الذي يُنظِّم أيضًا الرقابة على المسرح. تضمن القانون مادةً تمنح الحكومة الحق في مصادرة وحجز جميع الأعمال الفنية التي تتعارض مع النظام العام أو النظام الأخلاقي أو المعتقدات الدينية. ويعاقَب ناشر هذه الأعمال أو حاملها أو عارضها بغرامة من مئتين إلى ألفين قرش. وفي تلك الفترة، رفضت الرقابة مسرحية “يوسف” كمثالٍ للمسرحية الدينية ومسرحية “أدهم باشا” كمثالٍ للمسرحية السياسية ومسرحية “قطب العاشقين” كمثالٍ للتعريض برجال الدولة.

في عام ١٩١١م، تم اصدار لائحةٍ بتشكيل أول لجنة مسارح – لجنة رقابة فنية كما هو متعارف عليها الان – تتألف من الرئيس وهو حكمدار البوليس، ومن الأعضاء وهم مفتش صحة المدينة ومهندس كهربائي من نظارة الداخلية ومهندس معماري من إحدى المصالح الحكومية أو المجالس البلدية ومأمور القسم الواقع للمسرح ضمن دائرته. وهو ما يؤكِّد سيطرة الداخلية على الرقابة الفنية، فنجد أنه من الطبيعي أن ترفُض الرقابة تقديم مسرحية “دنشواي” عن الحادثة الشهيرة والجريمة النكراء في حق فلاحي القرية. أخذت الرقابة في التضييق على المسارح العربية، واستخدمت الحكومة عددًا من رجال البوليس السري لمنع تمثيل المسرحيات الممنوعة. ويبدو أن الرقابة توقفت عن رفض المسرحيات بدءًا من ١٩٣٦م وحتى بداية الخمسينيات من القرن العشرين، وحتى صدور قانون الرقابة رقم ٤٣٠ لسنة ١٩٥٥م.

لينضم الأزهر الشريف بشكل رسمي كرقيب فني عام ١٩٩٤م، حيث نص قرار ١٢١ لسنة ١٩٩٤م الصادر من الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع بمجلس الدولة علي أن الأزهر له التصدي لفحص المؤلفات والمصنفات التي تتعرض للإسلام وإبداء الرأي فيها، وإلزام وزارة الثقافة والجهات الأخرى المنوط بها قراراته.

ونجد بعد تلك القراءة التاريخية للرقابة الفنية في مصر، أنها دائما تُفرَض على الفن والإبداع بدافع سياسي وديني، إما لحفظ هيبة الأزهر أو النظام السياسي، وللتأكد من عدم كسر أصنام السلطة أو المستفيدين منها، ولا نجد هدفًا من تلك الرقابة غير الحفاظ على الوضع الحالي للسلطة، بغض النظر عن نتائج تلك الرقابة مستقبلًا، فآخر ما يهم تلك الرقابة هو رفع الذوق العام أو مناقشة قضايا المجتمع. ومن المُلاحَظ استمرار هذا النوع من الرقابة، فنجد أنه بعد ثورة ٢٥ يناير و٣٠ يونيو تم تأسيس المجلس الأعلى للإعلام عام ٢٠١٦م طبقًا للقانون رقم ٩٢، كمحاولةٍ أخيرةٍ لفرض السيطرة علي الفضاء الالكتروني وخصوصًا بعد سيطرة الدولة علي قطاع الإعلام بشكلٍ كاملٍ عن طريق أجهزتها الأمنية، وهو مجلس يمارس دورًا رقابيًا في عصر تكنولوجيا المعلومات، فبالإضافة إلى حجب المواقع الحقوقية والمواقع الإخبارية تحت غطاء عدم حصولها علي التراخيص اللازمة لها، أو تقدُّم شكاوٍ عديدةٍ بشأنها، إلا أنه في يوم ٧ سبتمبر أصدر المجلس قواعدًا تنظيميةً وتراخيصًا لمنصات المحتوي الالكتروني، والتي تشمل التزام تلك المنصات بالأعراف والقيم المجتمعية للدولة.

Author

  • زيزي احمد

    زيزي احمد ناشطة حقوقية كويرية عملت بالشأن السياسي بعد ثورة ٢٥ يناير، ثم اتجهت للعمل الحقوقي وبالأخص الشأن الكويري، عملت زيزي في عدة منظمات كويرية كمديرة مشروع وكمديرة للشؤون المالية وتعمل حاليا كمستشارة مالية لعدة منظمات حقوقية ومديرة مالية لمركز القاهرة 52 للابحاث القانونية

    View all posts
انشر: