احتفالًا بشهر الفخر، نقدم هذا المقال عن أحد الشخصيات التاريخية الكويرية المصرية التي أثرت في مجرى التاريخ وتركت أثرًا في الأدب المصري بصفتها شاعرًا وناقدًا وهو ابن وكيع التنيسي. بينما تهدف هذه المقالة إلى تقديم لمحة عن حياة التنيسي وأعماله الأدبية، فإنها تهدف أيضًا إلى إبراز كيف تم محو جنسانيته عمدًا من الأعمال المكتوبة عنه باللغة العربية. تم هذا المحو إما من خلال عدم شرح القصائد التي ناقش فيها جنسانيته أو من خلال التجاهل الكلي لوجود مثل هذه القصائد. فيما يبدو أن العالم العربي كله قد أجمع على تجاهل قصائده التي تعبر ببلاغة عن هويته الجنسانية الحقيقية من خلال خلق عالم جديد مصمم خصيصًا لـ “عالم” عربي خالي من الكويرية.
اسم ابن وكيع التنيسي الحقيقي هو أبو محمد الحسن ابن علي ابن أحمد ابن محمد ابن خلف ابن حيان ابن صدقة ابن زياد الضبعي. اسم شهرته مأخوذ من قرية اسمها التنيس في مدينة دمياط وهي القرية التي ولد فيها. ولد التنيسي وعاش في العصر العباسي وتوفي عام ١٠٠٣ ميلادية. كتب العديد من الكتب والشعر مثل كتاب المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي وكتاب ديوان الحسن ابن علي الضبعي الشاعر ابن وكيع التنيسي وكتاب النزهة في الإخوان. في حين أن هذه المقدمة تخبرنا مقتطفًا موجزًا عن هوية ابن وكيع، إلا أنها مع ذلك ، لا تخبرنا عما كان عليه شخصه. لكي نعرف كيف كان شخص ابن وكيع علينا أن نروي قصتين: القصة التي تُروى عادةً والقصة التي عادةً ما يتم إخفاءها. تُروَى القصة الأولى باللغة العربية من قبل كُتاب عرب ولجمهورٍ عربي بينما تُروَى الأخيرة باللغة الإنجليزية من قبل كُتاب إنجليز ولجمهورٍ غير عربي. الجدير بالذكر أن القصتين ليستا متطابقتين بل مكملتان لبعضهما البعض.
القصة الأولى
تركز أغلبية الأعمال باللغة العربية، التي تتناول كتب وقصائد التنيسي، على نقده للمتنبي وأبا نواس بشكلٍ خاص وأسلوبه كناقد بشكلٍ عام. في نقده لكلٍ من المتنبي وأبي نواس، ركز ابن على انحرافهم عن الدين في ثلاثة مواضع: المبالغة في المديح الذي يخالف التعاليم الدينية (سواء كان ذاك المديح موجهًا تجاه أنفسهم أو تجاه الآخرين) والظلم وأخيراً الكذب دون سياق أو حاجة. أولاً، انتقد ابن وكيع استخدامهم لنوعٍ من المديح لمدح الحكام مع أنه لا يتناسب إلا لمدح الأنبياء لما فيه من مبالغة وتعظيم. ثانيًا، لم يكتف بتوجيه اللوم إلى المتنبي لاستخدامه المديح غير المناسب، ولكن أيضًا لاستخدامه أحكامًا غير عادلة. على سبيل المثال، القول بأن الناس جميعٍا سيُقتلون بدون تمييز بينما يعتقد ابن وكيع أنه كان يجب أن يحدد أن أولئك الذين يرتكبون الآثام فقط هم الذين سيتعرضون لهذا النوع من المصير من خلال الاستشهاد بآيات قرآنية تدعم حجته. ثالثًا، كان ينتقد كل من مبالغة وكذب أبو نواس والمتنبي لأنه يعتقد أنه بينما لا ينبغي أن يكون الشعر دائمًا يحتمل الصدق، يجب على الأقل أن يكون واقعيًا.[1]
من خلال انتقاداته يمكن للمرء أن يستنتج أن التنيسي كان رجلاً متديناً وعادلاً. ومع ذلك، فإن هذه القصة لا تمثل سوى نصف الحقيقة.
القصة الثانية
القصة الثانية توجد فقط في الأدبيات المكتوبة عن التنيسي باللغة الإنجليزية (باستثناء كتاب أبو منصور الثعالبي “يتيمة أهل الدهر في شعراء أهل العصر” وهو مؤرخ عربي عاصر التنيسي.[2] ) والتي تُناقش أشعاره الكويرية والتي يدعي البعض أنها متأثرة بأشعار أبي نواس.[3]
تتناول القصة الأولى صراع ابن وكيع بين الدين والشعور بالذنب لحبه للخمر. لا يقف الصراع عند هذا الحد وإنما يمتد إلى هويته الجنسانية حيث يشعر بالذنب لوقوعه في الحب. تعرض إحدى قصائده ذاك الصراع بين معتقداته التي تؤمن بالغيرية وبين هويته الكويرية. هذه القصيدة تُوضح عدم استطاعته إخفاء مشاعره أو هويته الكويرية معللًا أن إخفاء مشاعره سيؤدي إلى حياة حياة مملة وبائسة – وهو أمر يرفضه لإيمانه إيمانًا راسخًا بضرورة الاستمتاع بالحياة. يؤكد في قصيدته أنه بعد صراع طويل مليء بتحذيرات الآخرين من المعاناة الأبدية في الآخرة، تمكن أخيرًا من الوصول إلى نقطة مريحة ومقنعة بالنسبة له. هذه النقطة تكمن في اعترافه بحقيقة المعاناة الأبدية ولكن الإيمان، في نفس الوقت، برحمة الله:
(لَا تَأْمُرنِي بالتستر فِي الْهوى … فالعيش أجمع فِي ركُوب الْعَار)
(إِن التوقر للحياة مكدر … والعيش فَهُوَ تهتك الأستار)
(خوفتني بالنَّار جهدك دائبا … ولججت فِي الإرهاب والإنذار)
[4](خوفي كخوفك غير أَنِّي واثق … بجميل عَفْو الْوَاحِد القهار)
تحكي قصيدة أخرى قصة وقوعه في حب رجلٍ مسيحي. يبدأ القصيدة بوصف جماله وكيف لا يمكن أن يُنسب مثل هذا الجمال إلى لبشر. ذهب ابن وكيع إلى أبعد من ذلك بتأكيده إنه إذا كان هذا الجمال عددًا لا حصر له من النعم ، لكانت قد نفذت منذ وقتٍ طويلة.
(من كف طبي من بني النَّصَارَى … ألبابنا فِي حسنه حيارى)
(إِذا بدا جماله لذِي النّظر … قَالَ تَعَالَى الله مَا هَذَا بشر)
[5](يُبْدِي جمالا جلّ عَن أَن يوصفا … لَو أَنه رزق حَرِيص لاكتفى)
في قصيدة أخرى، يذكر ابن وكيع كيف يسرق حذرًا في كثير من الأحيان قبلة من حبيبه. ثم يشرع في وصف كيف كانت هذه القبلة أفضل من الصباح الملبد بالغيوم والنسمات الباردة.
(ظَفرت بقبلة مِنْهُ اختلاسا … وَكنت من الرَّقِيب على حذار)
[6] (ألذ من الصبوح على غمام … وَمن برد النسيم على خمار)
في قصيدة رابعة، ينتقد ابن وكيع كل من لم ير حبيبه من قَبل لأنهم حين يروه عليهم أن يعتذروا ويتفهموا حبه له. كما يؤكد في النهاية أن كل من حرم حبه له في البداية هم من، بعد رؤية جمال حبيبه، أجازوه الآن.
(أبصره عاذلي عَلَيْهِ … وَلم يكن قبل ذَا رَآهُ)
(فَقَالَ لي لَو هويت هَذَا … مَا لامك النَّاس فِي هَوَاهُ)
(قل لي إِلَى إِلَى من عدلت عَنهُ … فَلَيْسَ أهل الْهوى سواهُ)
[7](فظل من حَيْثُ لَيْسَ يدْرِي … يَأْمر بالحب من نَهَاهُ)
يمكننا من خلال القصائد السابقة استنتاج أن التينيسي كان رجلاً مرحًا وزاهدًا ومحبًا للحياة وللاستمتاع بها. وهو غالبًا ما كان يخلط بين زهده وبين هويته الكويرية. يظهر ذلك في إحدى قصائده التي نصح فيها الآخرين بالتحلي بالزهد، لأنه من التعاليم الدينية. مؤكدًا أن عدم تحلي الشخص بالزهد سيؤدي إلى امتناع العالم عنه بنفس الطريقة التي يمتنع بها حبيبه عنه.
(ازهد إِذا الدُّنْيَا أنالتك المنى … فهناك زهدك من شُرُوط الدّين)
[8](فالزهد فِي الدُّنْيَا إِذا مَا رمتها … فَأَبت عَلَيْك كعفة الْعنين)
تذكر الأجزاء الصامتة
يُعد محو القصة الثانية إشكالية ليس فقط لأن المحو يُعد تزييفًا للماضي وإنما أيضًا لأنه تزييفًا للحاضر، خاصةً مع اعتبار المثلية الجنسية على أنها محاولة لتغريب الهوية العربية. توضح قصة التنيسيرأن الحقيقة غير ذلك. فقد كانت، وما زالت، المثلية الجنسية جزءً ا من العالم العربي قبل أي احتلال أجنبي ، سواء كان ذلك الاحتلال ثقافيًا أم سياسيًا أم اقتصاديًا. لذلك فإن مقاومة مثل ذلك المحو المقصود يبدأ من خلال استمرارية سرد والتذكر المستمر لتاريخنا الكويري الذي تم محوه. بالإضافة إلى أن سردنا وتذكرنا لتاريخنا الكويري، يمنح الشخصيات التاريخية الكويرية إحساسًا بالتملك تجاه قصصهم الكاملة وبالتالي هويتهم الجنسانية.
[1] حمود حسين يونس، الاتجاه الديني والأخلاقي في نقد ابن وكيع التنيسي، اتحاد الكتاب العرب، ٢٠١٨
[2]1. بروس ويليام دن ،الجنسانية و “عملية الحضارة” في مصر الحديثة (آن أربور ، ميتش: UMI ، 1996).
[3] جوليا أشتياني وآخرون.عباسية بلص الآداب (كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج ، 1990).
[4]أبو منصور الثعالبي، يتيمة الدَّهر في محاسن أهل العصـر (الجزء الأول)، ٤٥٤، (دار الكتب العلميَّة، بيروت 1983م).
[5] أبو منصور الثعالبي، يتيمة الدَّهر في محاسن أهل العصـر (الجزء الأول)، ٤٤٧، (دار الكتب العلميَّة، بيروت 1983م).
[6] أبو منصور الثعالبي، يتيمة الدَّهر في محاسن أهل العصـر (الجزء الأول)، ٤٥٩، (دار الكتب العلميَّة، بيروت 1983م).
[7]أبو منصور الثعالبي، يتيمة الدَّهر في محاسن أهل العصـر (الجزء الأول)، ٤٦٠، (دار الكتب العلميَّة، بيروت 1983م).
[8] أبو منصور الثعالبي، يتيمة الدَّهر في محاسن أهل العصـر (الجزء الأول)، ٤٦٢، (دار الكتب العلميَّة، بيروت 1983م).